فصل: عدة من ملوك العرب متفرقين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.ملوك غسان:

وكانوا عمالاً للقياصرة على عرب الشام، وأصل غسان من اليمن، من بني الأزد ابن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبا.
تفرقوا من اليمن بسيل العرم، ونزلوا على ماء بالشام يقال له غسان، فنسبوا إليه، وكان قبلهم بالشام عرب يقال لهم الضجاعمهَ من سليح، بفتح السين المهلة ثم لام مكسورة وياء مثناه من تحتها ثم حاء مهملة، فأخرجت غسان سليحاً عن ديارهم، وقتلوا ملوكهم، وصاروا موضعهم.
وأول من ملك من غسان جفنة بن عمرو بن ثعلبة بن عمرو بن مزيقيا، وكان ابتداء ملك غسان، قبل الإسلام بما يزيد على أربعمائة سنة، وقيل أكثر من ذلك، ولما ملك جفنة المذكور وقتل ملوك سليح، دانت له قضاعة ومن بالشام من الروم. وبنى بالشام عدة مصانع ثم هلك.
وملك بعده ابنه عمرو بن جفنة، وبنى بالشام عدة ديورة منها دير حالي ودير أيوب ودير هند.
ثم ملك بعده ابنه ثعلبة بن عمرو وبنى صرح الغدير في أطراف حوران. مما يلي البلقاء، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن ثعلبة. ثم ملك ابنه جبلة بن الحارث، وبنى القناطرْ واذرح والقسطل.
ثم ملك بعده ابنه الحارث بن جبلة، وكان مسكنه بالبلقاء فبنى بها الحفير ومصنعه.
ثم ملك بعده ابنه المنذر الأكبر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة ابن عمرو بن جفنة الأول، ثم هلك المنذر الأكبر المذكور وملك بعدها أخوه النعمان بن الحارث.
ثم ملك بعده أخوه جبلة بن الحارث، ثم ملك بعدهم أخوهم الأيهم بن الحارث، وبنى دير ضخم، ودير البنوة ثم ملك أخوهم عمرو بن الحارث ثم ملك جفنة الأصغر بن المنذر الأكبر، وهو الذي أحرق الحيرة، وبذلك سموا ولده آل محرق.
ثم ملك بعده أخوه النعمان الأصغر بن المنذر الأكبر، ثم ملك النعمان ابن عمرو بن المنذر، وبنى قصر السويدا، ولم يكن عمرو أبو النعمان المذكور ملكاً، وفي عمرو المذكور يقول النابغة الذبياني:
عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة ** لوالده ليست بذات عقارب

ثم ملك بعد النعمان المذكور ابنه جبلة بن النعمان، وهو الذي قاتل المنذر ابن ماء السماء، وكان جبلة المذكور ينزل بصفين.
ثم ملك بعده النعمان بن الأيهم بن الحارث بن ثعلبة، ثم ملك أخوه الحارث بن الأيهم ثم ملك بعده ابنه النعمان بن الحارث، وهو الذي أصلح صهاريج الرصافهَ وكان قد خربها بعض ملوك الحيرة اللخميين.
ثم ملك بعده ابنه المنذر بن النعمان، ثم ملك أخوه عمرو بن النعمان، ثم ملك أخوهما حجر بن النعمان ثم ملك ابنه الحارث بن حجر، ثم ملك ابنه جبلة بن الحارث، ثم ملك ابنه الحارث بن جبلة، ثم ملك ابنه النعمان بن الحارث، وكنيته أبو كرب، ولقبه قطام.
ثم ملك بعده الأيهم بن جبلة بن الحارث، وهو صاحب تدمر، وكان عامله بقال له القين بن خسر، وبنى له بالبرية قصراً عظيماً ومصانع، وأظن أنه قصر برقع.
ثم ملك بعده أخوه المنذر بن جبلة، ثم ملك بعده أخوهما شراحيل بن جبلة، ثم ملك أخوهم عمرو بن جبلة، ثم ملك بعده ابن أخيه جبلة بن الحارث بن جبلة.
ثم ملك بعده جبلة بن الأيهم بن جبلة، وهو آخر ملوك غسان، وهو الذي أسلم في خلافة عمر رضي اللّه عنه، ثم عاد إلى الروم وتنصر، وسنذكر ذلك في خلافة عمر إن شاء اللّه تعالى، وقد اختلف في مدة ملك الغساسنة، فقيل أربعمائة سنة وقيل ستمائة سنة وبين ذلك.

.ملوك جرهم:

أما جرهم فهم صنفان، جرهم الأولى: وكانوا على عهد عاد، فبادوا ودرست أخبارهم وهم من العرب البائدة. وأما جرهم الثانية: فهم من ولد جرهم بن قحطان. وكان جرهم أخا يعرب بن قحطان. فملك يعرب اليمن وملك أخوه جرهم الحجاز، ثم ملك بعد جرهم ابنه عبد يا ليل بن جرهم، ثم ابنه جرشم بن عبد يا ليل، ثم ابنه عبد المدان بن جرشم، ثم ابنه ثقيلة بن عبد المدان، ثم ابنه عبد المسيح بن ثقيلة، ثم ابنه مضاض بن عبد المسيح، ثم ابنه عمرو بن مضاض، ثم أخوه الحارث بن مضاض، ثم ابنه عمرو بن الحارث، ثم أخوه بشر بن الحارث، ثم مضاض بن عمرو بن مضاض، وجرهم المذكورون هم الذين اتصل بهم إسماعيل عليه السلام، وتزوج منهم. وسنذكرهم اًيضاً عند ذكر بني إسماعيل إن شاء اللّه تعالى.

.ملوك كندة:

من الكامل قال: وأول ملوك كندة حجر آكل المرار ابن عمرو، وهو من ولد كندة، وكان اسم كندة نورا وهو ابن عفير بن الحارث من ولد زيد بن كهلان ابن سبأ، وكانت كندة قبل أن يملك حجر عليهم بغير ملك، فأكل القوي الضعيف، فلما ملك حجر سدد أمورهم وساسهم أحسن سياسة، وانتزع من اللخميين ما كان بأيديهم من أرض بكر بن وائل، وبقي حجر آكل المرار كذلك حتى مات. وقيل له احمل المرار لكون امرأته قالت عنه: كأنه جمل قد أكل المرار، لبغضها له، فغلب ذلك لقباً عليه.
ثم ملك بعد حجر المذكور ابنه عمرو بن حجر ويقال لعمرو المذكور المقصور، لأنه اقتصر على ملك أبيه، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو وقوي ملك الحارث المذكور، ووافق كسرى قباذ بن فيروز على الزندقة، والدخول في مذهب مردك، فطرد قباذ المنذر بن ماء السماء اللخمي عن ملك الحيرة، وملك حارث المذكور موضعه، فعظم شأن الحارث، وقد تقدم ذلك في الفصل الثاني، مع ذكر أنوشروان بن قباذ.
فلما ملك أنوشروان أعاد المنذر وطرد الحارث المذكور، فهرب وتبعته تغلب وعدة قبائل؛ فظفروا بأمواله وبأربعين نفساً من بني حجر آكل المرار، ابنان من ولد حارث المذكور، فقتلهم المنذر عن آخرهم في ديار بني مرين وفي ذلك يقول امرؤ القيس بن حجر بن الحارث المذكور:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ** وأبناء الملوك مصفدينا

ملوك من بني حجر بن عمرو ** يساقون العشية يقتلونا

فلو في يوم معركة أصيبوا ** ولكن في ديار بني مرينا

ولم تغسل جماجمهم بغسل ** ولكن في الدماء مزملينا

تظل الطير عاكفة عليهم ** وتنتزع الحواجب والعيونا

وهرب الحارث إلى ديار كلب، وبقي بها حتى عُدمَ، واختلف في صورة عدمه. وكان الحارث المذكور قد ملك ابنه حجر بن الحارث على بني أسد ابن خزيمة ن مدركة، وملك أيضاً باقي بنيه على قبائل العرب.
فملك ابنه شراحيل بن الحارث على بكر بن وائل، وملك ابنه معدي كرب بن الحارث، وكان يلقب غلفاً لتغليفه رأسه بالطيب، على قيس غيلان، وملك ابنه سلمة على تغلب والنمر.
أما حجر المذكور وهو أبو امرئ القيس الشاعر، فبقي أمره متماسكاً في بني أسد مدة، ثم تنكروا عليه فقاتلهم وقهرهم، وبالغ في نكايتهم، ودخلوا تحت طاعته، ثم هجموا عليه بغتة وقتلوه غيلة. وفي ذلك يقول ابنه امرؤ القيس بن حجر المذكور أبياتاً منها.
بنو أسد قتلوا ربهم ** ألا كل شيء سواه خلل

وكان امرؤ القيس لما سمع بمقتل أبيه بموضع يقال له دمون من أرض اليمن فقال في ذلك:
تطاول الليل على دمون ** دمون أنا معشر يمانون

ثم استنجد امرؤ القيس ببكر وتغلب على بني أسد فأنجدوه، وهربت بنو أسد منهم، وتبعهم فلم يظفر بهم، ثم تخاذلت عنه بكر وتغلب، وتطلبه المنذر بن ماء السماء فتفرقت جموع امرئ القيس خوفاً من المنذر، وخاف امرؤ القيس من المنذر، وصار يدخل على قبائل العرب، وينتقل من أناس إلى أناس، حتى قصد السموءل بن عادياء اليهودي، فأكرمه وأنزله، وأقام امرؤ القيس عند السموءل ما شاء اللهُ، ثم سار امرؤ القيس إلى قيصر ملك الروم مستنجداً به، وأودع أدراعه عند السموءل بن عادياء المذكور، ومرّ على حماة وشيزر، وقال في مسيرة قصيدته المشهورة التي منها:
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا

ومنها:
تقطع أسباب اللبابة والهوى ** عشية جاوزنا حماة وشيزرا

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ** والحق أنا لاحقان بقيصرا

فقلت له لا تبك عينيك إنما ** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

وكان بامرئ القيس قرحة قد طالت به وفي ذلك يقول أبياته التي منها:
وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة ** لعل منايانا تحولن أبؤسا

فمات امرؤ القيس بعد عوده من عند قيصر في بلاد الروم، عند جبل يقال له عسيب. ولما علم بموته هناك قال:
أجارتنا إن الخطوب تنوب ** وإني مقيم ما أقام عسيب

وقد قيل أن ملك الروم سمه في حلة- وهو عندي من الخرافات- ولما مات امرؤ القيس، سار الحارث بن أبي شمر الغساني إلى السموءل وطالبه بأدرع امرئ القيس، وماله عنده، وكانت الأدراع مائة، وكان الحارث قد أسر ابن السموءل فلما امتنع السموءل من تسليم ذلك إلى الحارث، قال الحارث: إمّا أن تسلّم الأدراع، وإما قتلت ابنك، فأبى السموءل أن يسلمّ الأدراع، وقتل ابنه قدامه فقال السموءل في ذلك أبياتاً منها:
وفيت بأدرع الكندي إني ** إذا ما ذم أقوام وفيت

وأوصى عادياء يوماً بأن لا ** تهدم يا سموءل ما بنيت

وقد ذكر الأعشى هذه الحادثة فقال:
كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ** في جحفل كسواد الليل جرار

فشك غير طويل ثم قال له ** اقتل أسيرك إني مانع جاري

انتهى الكلام في ملوك كندة.

.عدة من ملوك العرب متفرقين:

فمنهم عمرو بن لحي بن حارثة بن عمرو مزيقيا بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، من ولد كهلان بن سبأ وكان عمرو بن لحي المذكور ملك الحجاز، وكثير الذكر في الجاهلية، وإليه تنسب خزاعة، فيقولون أنهم من ولد كعب بن عمرو المذكور.
قال الشهرستاني: وعمرو بن لحي المذكور، هو أول من جعل الأصنام على الكعبة وعبدها، فأطاعته العرب وعبدوها معه، واستمرت العرب على عبادة الأصنام حتى جاء الإسلام، وكان سبب ذلك أن عمرو المذكور، سار إلى البلقاء من الشام، فرأى قوماً يعبدون الأصنام، فسألهم عنه، فقالوا له: هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية، والأشخاص البشرية، نستنصر بها فننتصر ونستشفي بها فنشفى ونستسقي بها فنسقى، فأعجبه ذلك فطلب منهم صنماً، فدفعوا إليه هبل، فسار به إلى مكة ووضعه على الكعبة، واستصحب أيضاً صنمين يقال لهما إساف ونائلة، ودعى الناس إلى تعظيم الأصنام والتقرب إليها فأجابوه.
وقد ذكر الشهرستاني أنّ ذلك كان في أيام سابور، كان قبل الإسلام بنحو أربعمائة سنة، إن كان سابور بن أزدشير بن بابك، وأما إن كان سابور ذا الأكتاف فهو أبعد عن الصواب، لأنه بعد سابور الأول بمدة كثيرة.
ومن ملوك العرب زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عون بن عذرة الكلبي، وكان يسمى زهير المذكور الكاهن، لصحة رأيه، وعاش عمراً طويلاً، وغزا غزوات كثيرة وكان ميمون النقيبة، واجتمعت عليه قضاعة، فغزا بهم غطفان بسبب أنّ بني نقيص بن ريث بن غطفان بنوا حرماً مثل حرم مكة، وولي سدانته منهم بنو مرة بن عون فلما بلغ زهيراً ذلك قال: واللّه لا يكون ذلك أبداً، ولا أخلي غطفان تتخذ حرماً، فغزاهم وجرى بينهم قتال شديد، وظفر بهم زهير وأبطل حرمهم، وأخذ أموالهم ورد نساءهم عليهم، وفي ذلك يقول أبياتاً منها:
ولولا الفضل منا ما رجعتم ** إلى عذراء شيمتها الحياء

وكان زهير المذكور قد اجتمع بأبرهة الأشرم الحبشي صاحب الفيل، فأكرمه أبرهة وفضله على غيره من العرب، وأمرّه على بكر وتغلب ابني وائل. واستمر زهير أميراً عليهم حتى خرجوا عن طاعته، فغزاهم أيضاً وقتل فيهم وكذلك أيضاً غزا بني القين، وجرى له مع المذكورين حروب يطول شرحها، وكان الظفر لزهير. ولما أسنَّ زهير المذكور، شرب الخمر صرفاً حتى مات. قال ابن الأثير: وممن شرب الخمر صرفاً حتى مات عمرو بن كلثوم التغلبي، وأبو عامر ملاعب الأسنة العامري.
ومن ملوك العرب أيضاً كليب بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر ابن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل، ووائل هو بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة الفرس بن نزار بن معد بن عدنان، وكان كليب المذكور اسمه وائلاً وكليب لقب غلب عليه، وملك كليب على بني معد، وقاتل جموع اليمن وهزمهم، وعظم شأنه وبقي زماناً من الدهر.
ثم داخل كليباً زهو شديد، وبغى على قومه، فصار يحمي عليهم مواقع السحاب، فلا يرعى حماه، ويقول وحش أرض كذا في جواري، فلا يصاد، ولا ترد إبل مع إبله، ولا توقد نار مع ناره، وبقي كذلك حتى قتله جساس بن مرة بن ذهل ابن شيبان وشيبان من بني بكر بن وائل المذكور.
وكان سبب مقتل كليب أن رجلاً من جرم نزل على خالة جساس وكان اسم خالته المذكورة البسوس بنت منقذ التميمية، وكان للجرمي المذكور ناقة اسمها سراب فوجدها كليب ترعى في حماه، فضر بها بالنشاب وأخرم ضرعها. وجاءت الناقة إلى الجرمي صاحبها مجروحة، فصرخ بالذل، فلما سمعته البسوس وضعت يدها على رأسها وصاحت: واذلاه، بسبب نزيلها الجرمي المذكور. فاستنصر جساس لخالته، وقصد كليباً وهو منفرد في حماه، فضربه بالرمح فقتله.
ولما قتل كليب قام أخوه مهلهل بن ربيعة بن الحارث المذكور وجمع قبائل تغلب واقتتل مع بني بكر، وجرى بينهم عدة وقائع أولها يوم عنيزة وكانوا في القتال على السواء ثم اتقعوا بماء يقال له النهي، وكان رئيس تغلب مهلهلا، ورئيس بني شيبان بن بكر الحارث بن مرة أخا جساس، وكان النصر لبني تغلب وقتل من بكر جماعة ثم التقوا بالدنائب وهي من أعظم وقائعهم، فانتصر مهلهل وبنو تغلب، وقتل من بني بكر مقتلة عظيمة، وقتل من بني شيبان جماعة، منهم شراحيل بن هشام بن مرة، وهو ابن أخي جساس، وشراحيل المذكور هو جد معن بن زائدة الشيباني، وقتل أيضاً الحارث بن مرة، وهو أخو جساس، كذلك قتل جماعة من رؤساء بني بكر.
ثم التقوا يوم واردات فظفرت تغلب أيضاً، وكثر القتل في بكر، وقتل همام أخو جساس لأبيه وأمه، وجعلت تغلب تطلب جساساً أشد الطلب، فقال له أبو مرة الحق بأخوالك بالشام، وأرسله سراً مع نفر قليل، وبلغ مهلهلاً الخبر فأرسل في طلبه ثلاثين نفراً فأدركوا جساساً واقتتلوا، فلم يسلم من أصحاب مهلهل غير رجلين، وكذلك لم يسلم من البكريين أصحاب جساس غير رجلين، وجرح جساس جرحاً شديداً مات منه، وعاد الذين سلموا فخبروا أصحابهم، وكذلك قتل مهلهل أيضاً بجير بن الحارث البكري، ولما قتله مهلهل قال: بؤبشسع نعل كليب فلما قتل بجير قال أبوه الحارث الأبيات المشهورة التي منها:
قربا مربط النعامة مني ** شاب رأسي وأنكرتني رجالي

لم أكن من جناتها علم اللـ ** ـه وإني بحرّها اليوم صالي

والنعامة اسم فرسه، ودامت الحرب بين بني وائل المذكورين كذلك نحو أربعين سنة.
ولما قتل جساس أرسل أبوه مرة يقول لمهلهل: قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً، فاكفف عن الحرب، ودع اللجاج والإسراف. فلم يرجع مهلهل عن القتال. ولما طالت الحروب بينهم، وأدركت تغلب ما أرادته من بكر، أجابوهم إلى الكف عن القتال، وعدم مهلهل، واختلف في صورة عدمه، تركنا ذكره للاختصار.
ومن ملوك العرب زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث ابن قطيعة بن عبس. وهو والد الملك قيس بن زهير العبسي، وكان لزهير أتاوة على هوازن يأخذها كل سنة في عكاظ، وهو سوق العرب أيام الموسم بالحجاز، وكان يسوم هوازن الخسف، فكان في قلوبهم منه، ووقعت الحرب بين زهير وبين عامر، فاتفقت هوازن مع خالد بن جعفر بن كلاب وبني عامر على حرب زهير، واقتتلوا معه فاعتنق زهير وخالد وتقاتلا، فقتل زهير وسلم خالد، وكانت الوقعة بالقرب من أرض هوازن، فحملت زهيراً بنوه ميتاً إلى بلادهم، فقال: ورقة بن زهير أبياتاً في ذلك منها يقول لخالد المذكور:
فَطر خالد إن كنت تسطيع طيرة ** ولا تقعن إلا وقلبك حاذر

أتتك المنايا إنْ بقيت بضربة ** تفارق منها العيش والموت حاضر

ولما كان من خالد بن جعفر بن كلاب ما كان من قتل زهير، خاف وسار إلى النعمان بن امرئ القيس اللخمي ملك الحيرة واستجار به، وكان زهير سيد غطفان، فانتدب منهم الحارث بن ظالم المري، وقدم إلى النعمان في معنى حاجة له، وكان النعمان قد ضرب لخالد قبة، فلما جنَّ الليل، دخل الحارث إلى خالد وقتله في قبته غيلة وهرب وسلم.
ثم جمع الأخوص بن جعفر، وهو أخو خالد، بين عامر وأخذ في طلب الحارث المري، وكذلك أخذ النعمان في طلبه لقتله جاره، وجرى بسبب ذلك حروب وأمور يطول شرحها وكان آخرها يوم شعب جبلة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ومن ملوك العرب الملك قيس بن زهير العبسي المذكور، وكان قد جمع لقتال بني عامر أخذاً بثأر أبيه زهير.
ثم نزل قيس بالحجاز، وفاخر قريشاً، ثم رحل عن قريش ونزل على بني بدر الفزاري الذبياني، ونزل على حذيفة بن بدر منهم، وكان قيس قد اشترى من الحجاز حصانه داحساً وفرسه الغبراء، وقد قيل أن الغبراء بنت داحس استولدها قيس من داحس ولم يشترها. وكان لحذيفة بن بدر فرسان يقال لهما الخطار والحنفاء، وقصدان يسابق مع فرسي قيس، داحس والغبراء، فامتنع قيس وكره السباق، وعلم أنه ليس في ذلك خير، فأبى حذيفة إلا المسابقة، فأجروا الأربعة المذكورة بموضع يقال له ذات الأصاد، وكان الميدان نحو مائة غلوة، والغلوة الرمية بالسهم أبعد ما يمكن، كان الرهن مائة بعير، فسبق داحس سبقاً بيناً والناس ينظرون إليه، وكان حذيفة قد أكمن في طريق الخيل من يعترض داحساً إنْ جاءَ سابقاً، فاعترضه ذلك القوم وضربوه على وجهه، فتأخر داحس.
ثم سبقت الغبراء أيضاً الخطار والحنفاء فأنكر حذيفة ذلك كله وادّعى السبق، فوقع الخلف بين بني بدر وبني قيس، وكان بين الربيع بن زياد وَبين قيس خلف بسبب درع اغتصبها الربيع من قيس، وكان يسوء الربيع اتفاق بني بدر مع قيس، فلما وقع بينهم بسبب السباق سره ذلك، ولما اشتد الأمر بينهم قتل قيس ندبة بن حذيفة، وكان لقيس أخ يقال له مالك بن زهير، وكان نازلا على بني ذبيان، فلما أبلغهم قتل ندبة، قتلوا مالك بن زهير المذكور غيلة، ولما بلغ الربيع بن زياد مقتل مالك غم ذلك عليه جداً، وعطف على قيس وانتصر له وعمل الربيع أبياتاً في مقتل مالك منها:
من كان مسروراً بمقتل مالك ** فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسراً يندبنه ** ويقمن قبل تبلج الأسحار

ثم اجتمع قيس والربيع واصطلحا وتعانقا، وقال قيس للربيع إنه لم يهرب منك من لجأ إليك، ولم يستغن عنك من استعان بك، واجتمع إلى قيس والربيع بنو عبس، واجتمع إلى بني بدر بنو فزارة وذبيان، واشتدت الحروب بينهم وهي المعروفة بينهم بحرب داحس فاقتتلوا أولا فقتل عوف بن بدر، وانهزمت فزارة، وقتلت بنو عبس فيهم قتلاً ذريعاً، ثم اتقعوا ثانياً فانتصرت بنو عبس أيضاً، وكانت الدائرة على فزارة، وقتل الحارث بن بدر وطالت الحروب بينهم، وكان آخرها أنهم اتقعوا فانهزمت فزارة، وانفرد حذيفة وحمل أخوه ومعهما جماعة يسيرة وقصدوا جفر الهباة فلحقهم بنو عبس وفيهم قيس والربيع بن زياد وعنترة، وحالوا بين بني بدر وبين خيلهم وقتلوا حذيفة وأخاه حملا ابني بدر، وأكثر الشعراء في ذكر جفر الهباة ومقتل بني بدر عليه، وظهرت في هذه الحروب شجاعة عنترة بن شداد.
ثم أن فزارة بعد مقتل بني بدر ساعدتهم قبائل كثيرة، لأنهم أعظموا قتل بني بدر، فلما قويت فزارة سارت بنو عبس ودخلوا على كثير من أحياء العرب، ولم يطل لهم مقام عند أحد منهم، وآخر الحال أن بني عبس قصدوا الصلح مع فزارة. فأجابتهم شيوخ فزارة إلى ذلك.
وتم الصلح بينهم، وقيل أن بني عبس لما سارت إلى بني فزارة واصطلحوا معهم لم يسر معهم الملك قيس، بل انفرد عن بني عبس وتاب وتنصر وساح في الأرض حتى انتهى إلى عمان، فترهب بها زماناً، وقيل أن قيساً تزوج في النمر بن قاسط لما انفرد عن بني عبس وولد له ولد اسمه فضالة، وبقي فضالة المذكور حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وعقد له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على من معه من قومه، وكانوا تسعة وهو عاشرهم.
وكان بين ملوك العرب وقائع في أيام مشهورة فمنها يوم خزار اتقعت فيه بنو ربيعة بن نزار، وهو ربيعة الفرس، وقبائل اليمن، وكانت الدائرة على اليمن، وانتصرت بنو ربيعة عليهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وقيل: أن قائد بني ربيعة كان كليب وائل المقدم الذكر، وخزار جبل بين البصرة إلى مكة.
ومنها أيام بني وائل بسبب قتل كليب، كانت بين تغلب وقائدهم مهلهل أخو كليب، وبين بكر وقائدهم مرة أبو جساس، فأولها يوم عنيزة وتكافأ فيه الفريقان، ثم كان بينهم يوم واردات وانتصرت فيه تغلب على بكر، ثم يوم الحنو وكان لبكر على تغلب، ثم يوم القصيبات انتصرت فيه تغلب وأصيبت بكر حتى ظنوا أنهم قد بادوا، ثم يوم أقضة ويقال يوم التحالق، كثر فيه القتل في الفريقين، وكان بينهم أيام أخر لم يشتد فيها القتال كهذه الأيام.
ومن أيام العرب يوم عين اباغ وكان بين غسان ولخم، وكان قائد غسان الحارث الذي طلب أدراع امرئ القيس وقيل غيره، وكان قائد لخم المنذر بن ماء السماء بغير خلاف، وقتل المنذر في هذا اليوم، وانهزمت لخم، وتبعتهم غسان إلى الحيرة، وأكثروا فيهم القتل وعين أباغَ بموضع يقال له ذات الخبار.
ومن أيام العرب يوم مرج حليمة وكان بين غسان ولخم أيضاً، وقعة يوم مرج حليمة من أعظم الوقعات، وكانت الجيوش فيه قد بلغت من الفريقين عدداً كثيراً، وعظم الغبار حتى قيل أنّ الشمس قد انحجبت وظهرت الكواكب التي في خلاف جهة الغبار، واشتد القتال فيه، واختُلف في النصر لمن كان منهم.
ومنها يوم الكلاب الأول وكان بين الأخوين شراحيل وسلمة ابني الحارث ابن عمرو الكندي، وكان مع شراحيل وهو الأكبر بكر بن وائل وغيرهم، وكان مع سلمة أخيه تغلب وائل وغيرهم، واتقعوا في الكلاب وهو بين البصرة والكوفة، واشتد القتال بينهم، ونادى منادي شراحيل من أتاه برأس أخيه سلمة فله مائة من الإبل، ونادى منادي سلمة من أتاه برأس أخيه شراحيل فله مائة من الإبل، فانتصر سلمة وتغلب على شراحيل وبكر، وانهزم شراحيل وتبعته خيل أخيه ولحقوه وقتلوه وحملوا رأسه إلى سلمة.
ومنها يوم أوارة وهو جبل، وكان بين المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة ين بكر وائل بسبب اجتماع بكر على سلمة بن الحارث، فظفر المنذر ببكر، وأقسم أنه لا يزال يذبحهم حتى يسيل دمهم من رأس أوارة إلى حضيضه، فبقي يذبحهم والدم يجمد، فسكب عليه ماء حتى سال الدم من رأس الجبل إلى حضيضه، وبرت يمينه.
ومنها يوم رحرحان من العقد: قال وكان من أمره، أن الحارث بن ظالم المري ثم الذبياني، لمّا قتل خالد ابن جعفر بن كلاب قاتل زهير، حسبما تقدم- ذكره، عند ذكر مقتل زهير، هرب الحارث من النعمان ملك الحيرة، لكونه قتل خالداً وهو في جيرة النعمان، فلم يجر الحارث المذكور أحد من العرب خوفاً من النعمان، حتى استجار بمعبد بن زرارة فأجاره، فلم يوافقه قومه بنو تميم، وخافوا من ذلك، ووافقه منهم بنو ماوية وبنو دارم فقط، فلما بلغ الأخوص أخا خالد مكان حارث المري من معبد، سار إليه واقتتلوا بموضع يقال له وادي رحرحان فانهزمت بنو تميم، وأسر معبد بن زرارة، وقصد أخوه لقيط بن زرارة أن يستفكّه، فلم يقدر، وعذبوا معبداً حتى مات.
ومنها يوم شعب جبلة وهو من أعظم أيام العرب، وكان من حديثه: أنه لما انقضت وقعة رحرحان، استنجد لقيط بن زرارة التميمي ببني ذبيان فنجدته، وتجمعت له بنو تميم، غير بني سعد، وخرجت معه بنو أسد، وسار بهم لقيط إلى بني عامر وبني عبس في طلب ثأر أخيه معبد، فأدخلت بنو عامر وبنو عبس أموالهم في شعب جبلة، هضبة حمراء بين الشريف والشرف وهما ماآن فحضرهم لقيط فخرجوا عليه من الشعب، وكسوا جمائع لقيط وقتلوا لقيطاً، وأسروا أخاه حاجب ابن زرارة، وانتصرت بنو عامر وبنو عبس نصراً عظيماً، وفي ذلك يقول جرير:
ويوم الشعْب قد تركوا لقيطاً ** كأنّ عليه حلة أرجوان

وكبّلَ حَاجبٌ بالشام حولاً ** فحكم ذا الرقيبة وهو عان

وقتل أيضاً من بني ذبيان وبني تميم وبني أسد في يوم شعب جبلة جماعة كثيرة، وقد أكثرت العرب من مراثي المقتولين من القبائل المذكورة، وكان يوم رحرحان قبل يوم شعب جبلة بسنة واحدة، وكان يوم شعب جبلة في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى النقل من العقد لابن عبد ربه.
ومن أيام العرب المشهورة يوم ذي قار وكان في سنة أربعين من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل في عام وقعة بدر الأول أقوى، وكان من حديثه أنّ كسرى برويز غضب على النعمان بن المنذر وحبسه، فهلك في الحبس، وكان النعمَان قد أودع حلقته، وهي السلاح والدروع، عند هانئ بن مسعود البكري، فأرسل برويز يطلبها من هانئ المذكور فقال: هذه أمانة والحر لا يسلم أمانته، وكان برويز لما أمسك النعمان، قد جعل موضعه في مُلك الحيرة إياس بن قبيصة الطائي، فاستشار برويز إياساً المذكور فقال إياس: المصلحة التغافل عن هانئ بن مسعود المذكور حتى يطمئن، وتتبعه فتدركه، فقال برويز إنه من أخوالك، ولا نألوه نصحاً، فقال إياس: رأي الملك أفضل.
فبعث برويز الهرمزان في ألفين من الأعاجم، وبعث ألفا من بهرا، فلما بلغ بكر ابن وائل خبرهم، أتوا مكاناً من بطن ذي قار فنزلوه، ووصلت إليهم الأعاجم، واقتتلوا ساعة وانهزمت الأعاجم هزيمة قبيحة، وأكثرت العرب الأشعار في ذكر هذا اليوم.